فصل: تفسير الآية رقم (78):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (78):

{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)}
{والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم} عطف على قوله تعالى: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} منتظمٌ معه في سلك أدلةِ التوحيد من قوله تعالى: {والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء} وقولِه تعالى: {والله خَلَقَكُمْ} وقوله تعالى: {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ} والأمهات بضم الهمزة وقرئ بكسرها أيضاً جمعُ الأم زيدت الهاء فيه كما زيدت في أهراق من أراق وشذّت زيادتُها في الواحدة، قال:
أُمهتي خِندِفُ والياسُ أبي

{لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} في موقع الحال أي غيرَ عالمين شيئاً أصلاً {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والافئدة} عطف على {أخرجكم} وليس فيه دلالةٌ على تأخر الجمعِ المذكورِ عن الإخراج لما أن مدلولَ الواو هو الجمعُ مطلقاً لا الترتيبُ، على أن أثر ذلك الجعلِ لا يظهر قبل الإخراج أي جعل لكم هذه الأشياءَ آلاتٍ تحصّلون بها العلمَ والمعرفة بأن تُحِسوا بمشاعركم جزئياتِ الأشياء وتُدركوها بأفئدتكم وتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساسِ فيحصل لكم علومٌ بديهيةٌ تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلومِ الكسبية. والأفئدة جمع فؤاد وهو وسطُ القلب وهو للقلب كالقلب من الصدر، وهو من جموع القلة التي جرت مَجرى جموعِ الكثرة، وتقديمُ المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذان من أول الأمر بكون المجعول نافعاً لهم وتشويقِ النفس إلى المؤخر ليتمكن عند ورودِه عليها فضلَ تمكن {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} كي تعرِفوا ما أنعم به عليكم طوراً غِبَّ طَورٍ فتشكروه، وتقديمُ السمع على البصر لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدمُ من إدراك البصر، وإفرادُه باعتبار كونه مصدراً في الأصل.

.تفسير الآيات (79- 80):

{أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)}
{أَلَمْ يَرَوْاْ} وقرئ بالتاء {إِلَى الطير} جمع طائر أي ألم ينظروا إليها {مسخرات} مذلّلاتٍ للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسبابِ المساعدة له، وفيه مبالغةٌ من حيث إن معنى التسخيرِ جعلُ الشيء منقاداً لآخرَ يتصرف فيه كيف يشاء كتسخير البحر والفُلك والدوابِّ للإنسان، والواقعُ هاهنا تسخيرُ الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعةِ الطير السقوطَ فسخرها الله تعالى للطيران، وفيه تنبيهٌ على أن الطيرانَ ليس بمقتضى طبعِ الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى {فِى جَوّ السمآء} أي في الهواء المتباعدِ من الأرضَ والسكاك واللوح أبعدُ منه، وإضافتُه إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمالِ أجلّ القدرة.
{مَا يُمْسِكُهُنَّ} في الجو حين قبْضِ أجنحتهن وبسطِها ووقوفِهن {إِلاَّ الله} عز وجل بقدرته الواسعة، فإن ثقلَ جسدها ورِقّةَ قوامِ الهواء يقتضيان سقوطَها ولا عِلاقةَ من فوقها ولا دِعامة من تحتها، وهو إما حالٌ من الضمير المستتر في مسخّرات أو من الطير وإما مستأنف {إِنَّ فِي ذَلِكَ} الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خِلْقةً تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحةً خفيفة وأذناباً كذلك وجعل أجسادها من الخِفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابَها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير {لآَيَاتٍ} ظاهرة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به.
{والله جَعَلَ لَكُمُ} معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذان من أول الأمر بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفسِ إلى وروده، وقولُه تعالى: {مِن بُيُوتِكُمْ} أي المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدَر تبيينُ ذلك المجعول المبْهمِ في الجملة وتأكيدٌ لما سبق من التشويق {سَكَناً} فَعَلٌ بمعنى مفعول أي موضعاً تسكنون فيه وقت إقامتِكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه، أي جعل بعضَ بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام بُيُوتًا} أي بيوتاً أُخَرَ مغايرةً لبيوتكم المعهودةِ هي الخيامُ والقِباب والأخبية والفساطيط.
{تَسْتَخِفُّونَهَا} تجدونها خفيفةً سهلةَ المأخذ {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} وقت تَرحالِكم في النقض والحمل والنقل، وقرئ بفتح العين {وَيَوْمَ إقامتكم} وقت نزولِكم في الضرب والبناء {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} عطفٌ على قوله تعالى: {مّن جُلُودِ} والضمائر للأنعام على وجه التنويع، أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبارِ الإبل وأشعار المعْزِ {أَثَاثاً} أي متاعَ البيت وأصلُه الكثرةُ والاجتماعُ ومنه شعرٌ أثيثٌ {ومتاعا} أي شيئاً يُتمتّع به بفنون التمتع {إلى حِينٍ} إلى أن تقضوا منه أوطارَكم أو إلى أن يبلى ويفنى فإنه في معرض البلى والفناء، وقيل: إلى أن تموتوا، والكلام في ترتيب المفاعيل مثلُ ما مر من قبل.

.تفسير الآيات (81- 82):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)}
{والله جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ} من غير صنعٍ من قِبلكم {ظلالا} أشياءَ تستظلون بها من الحر كالغمام والشجرِ والجبل وغيرها. امتنّ سبحانه بذلك لِما أن تلك الديارَ غالبةُ الحرارة {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا} مواضعَ تسكنون فيها من الكهوف والغِيران والسُّروب، والكلام في الترتيب الواقع بين المفاعيل كالذي مرَّ غير مرة.
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} جمع سِربال وهو كل ما يُلبس، أي جعل لكم ثياباً من القُطن والكَتان والصوف وغيرها {تَقِيكُمُ الحر} خصّه بالذكر اكتفاءً بذكر أحد الضدّين عن ذكر الآخر أو لأن وقايتَه هي الأهم عندهم لما مر آنفاً {وسرابيل} من الدروع والجواشن {تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أي البأسَ الذي يصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الضرب والطعن، ولقد منّ الله سبحانه علينا حيث ذكر جميعَ نعمِه الفائضةِ على جميع الطوائف فبدأ بما يخُص المقيمين حيث قال: {والله جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} ثم بما يخص المسافرين ممن لهم قدرةٌ على الخيام وأضرابِها حيث قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الانعام} الخ، ثم بما يعم من لا يقدر على ذلك ولا يأويه إلا الظلالُ حيث قال: {وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظلالا} الخ، ثم بما لابد منه لأحد حيث قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ} الخ، ثم بما لا غنى عنه في الحروب حيث قال: {وسرابيل تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} ثم قال: {كذلك} أي مثلَ ذلك الإتمامِ البالغِ {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} أي إرادةَ أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرةِ والباطنةِ والأنفسيةِ والآفاقية فتعرِفوا حقَّ مُنعمِها فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره، وإفرادُ النعمة إما لأن المرادَ بها المصدرُ أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياءِ شيءٌ قليل، وقرئ: {تَسلمون} أي تسلمون من العذاب أو من الشرك، وقيل: من الجراح بلبس الدروع.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} فعل ماض على طريقة الالتفات، وصرفُ الخطابِ عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليةٌ له أي فإن أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقيَ إليهم من البينات والعِبر والعظات {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين} أي فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغُ الموضح أو الواضح وقد فعلتَه بما لا مزيد عليه فهو من باب وضعِ السببِ موضعَ المسبب.

.تفسير الآيات (83- 86):

{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)}
{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله} استئنافٌ لبيان أن تولّيَهم وإعراضَهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عُدد من نعم الله تعالى أصلاً فإنهم يعرِفونها ويعترفون أنها من الله تعالى {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث يعبدون غيرَ مُنعمها أو بقولهم: إنها بشفاعة آلهتِنا أو بسبب كذا، وقيل: نعمةُ الله تعالى نبوةُ محمد صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءَهم ثم أنكروها عِناداً، ومعنى ثم استبعادُ الإنكار بعد المعرفة لأن حق مَنْ عرف النعمة الاعترافُ بها لا الإنكارُ، وإسنادُ المعرفة والإنكارِ المتفرِّعِ عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسنادِ حالِ البعض إلى الكل كقولهم: بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل واحدٌ منهم، فإن بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي المنكرون بقلوبهم غيرُ المعترفين بما ذكر، والحُكم عليهم بمطلق الكفر المؤذِن بالكمال من حيث الكميةُ لا ينافي كمالَ الفِرقة الأولى من حيث الكيفية. هذا وقد قيل: ذكرُ الأكثر إما لأن بعضهم لم يَعرِفوا لنقصان العقل أو التفريطِ في النظر، أو لم يقُم عليه الحجةُ لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} يشهد لهم بالإيمان والطاعةِ وعليهم بالكفر والعصيان وهو نبيها {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الاعتذار إذ لا عذرَ لهم وثم للدَّلالة على أن ابتلأَهم بالمنع عن الاعتذار المنبىء عن الإقناط الكليِّ وهو عندما يقال لهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} أشدُّ من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام عليهم وأطمُّ {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يُسترضَون أي لا يقال لهم: ارضُوا ربكم إذ الآخرةُ دارُ الجزاء لا دارُ العمل، وانتصابُ الظرف بمحذوف تقديرُه اذكرْ أو خوِّفْهم يوم نبعث الخ، أو يوم نبعث بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذابُ جهنم {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} ذلك {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} أي يُمهلون كقوله تعالى: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} {وَإِذَا رَءا الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ} الذين كانوا يدعونهم في الدنيا وهم الأوثانُ أو الشياطينُ الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه وقارنوهم في الغيّ والضلال {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ} أي نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذابِ بينهم كما ينبىء عنه قوله سبحانه: {فَأَلْقَوُاْ} أي شركاؤهم {إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه، وإنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم ويطيعونهم لأن الأوثانَ ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتَهم لهم كما قالت الملائكةُ عليهم السلام: {بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} يعنون أن الجنَّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم في تسميتهم شركاءَ وآلهةً تنزيهاً لله سبحانه عن الشريك. والشياطينُ وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاءِ كما قال إبليسُ: {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم.

.تفسير الآيات (87- 89):

{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
{وَأَلْقَوْاْ} أي الذين أشركوا {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الاستسلامَ والانقيادَ لحُكمه العزيز الغالب بعد الاستكبار عنه في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُم} أي ضاع وبطل {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله سبحانه شركاءَ وأنهم ينصُرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرؤا منهم.
{الذين كَفَرُواْ} في أنفسهم {وَصُدُّواْ} غيرهم {عَن سَبِيلِ الله} بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} الذي كانوا يستحقونه بكفرهم، قيل في زيادة عذابهم: حياتٌ أمثالُ البُخْت وعقاربُ أمثالُ البغال تلسَع إحداهن فيجد صاحبها حُمَتَها أربعين خريفاً، وقيل: يُخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} متعلق بقوله: زدناهم، أي زدنا عذابَهم بسبب استمرارِهم على الإفساد وهو الصدّ المذكور.
{وَيَوْمَ نَبْعَثُ} تكريرٌ لما سبق تثنيةً للتهديد {فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ} أي نبياً {مّنْ أَنفُسِهِمْ} من جنسهم قطعاً لمعذرتهم وفي قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ} إشعارٌ بأن شهادةَ أنبيائِهم على الأمم تكون بمحضر منهم {وَجِئْنَا بِكَ} إيثارُ لفظ المجيء على البعث لكمال العنايةِ بشأنه عليه السلام، وصيغةُ الماضي للدِلالة على تحقق الوقوع {شَهِيدًا على هَؤُلآء} الأممِ وشهدائِهم كقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} وقيل: على أمتك والعاملُ في الظرف محذوفٌ كما مر والمراد يوم القيامة {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} الكاملَ في الكتابية الحقيقَ بأن يُخَص باسم الجنس، وهو إما استئنافٌ أو حال بتقدير قد {تِبْيَانًا} بياناً بليغاً {لّكُلّ شَىْء} يتعلق بأمور الدين، ومن جملة ذلك أحوالُ الأممِ مع أنبيائهم عليهم السلام فيكون كالدليل على كونه عليه السلام شهيداً عليهم وكذا من جملته ما أخبر به هذه الآيةُ الكريمة من بعث الشهداءِ وبعثِه عليه السلام شهيداً عليهم عليهم الصلاة والسلام، والتبيانُ كالتِلقاء في كسر أوله، وكونُه تبياناً لكل شيء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصاً على بعضها وإحالةً لبعضها على السنة حيث أُمر باتباع النبي عليه السلام وطاعته، وقيل فيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} وحثًّا على الإجماع وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال: «أصحابي كالنّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد اجتهدوا وقاموا ووطّأوا طرقَ الاجتهاد فكانت السنة والإجماعُ والقياسُ مستندةً إلى تبيان الكتاب ولم يضُرَّ ما في البعض من الخفاء في كونه تبياناً فإن المبالغةَ باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل في قوله تعالى: {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} إنه من قولك: فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} للعالمين فإن حرمانَ الكفرة من مغانم آثارِه من تفريطهم لا من جهة الكتاب {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} خاصة أو يكون كلُّ ذلك خاصاً بهم لأنهم المنتفِعون بذلك.

.تفسير الآيات (90- 91):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)}
{إِنَّ الله يَأْمُرُ} أي فيما نزّله تبياناً لكل شيء وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجددِ والاستمرار {بالعدل} بمراعاة التوسطِ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ وهو رأسُ الفضائل كلِّها يندرج تحته فضيلةُ القوةِ العقلية الملكية من الحِكمة المتوسطةِ بين الحُرية والبَلادة، وفضيلةُ القوةِ الشهوية البهيمية من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود، وفضيلةُ القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهوُّرِ والجُبن، فمن الحِكم الاعتقادية التوحيدُ المتوسطُ بين التعطيل والتشريك. نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن العدلَ هو التوحيدُ والقولُ بالكسب المتوسّطِ بين الجبر والقدَر، ومن الحِكم العملية التعبدُ بأداء الواجبات المتوسطِ بين البَطالة والترهب، ومن الحِكم الخلُقية الجودُ المتوسط بين البخل والتبذير {والإحسان} أي الإتيانِ بما أمر به على الوجه اللائقِ وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفيةِ كما يشير إليه قولُه صلى الله عليه وسلم: «الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» {وَإِيتَآء ذِى القربى} أي إعطاءِ الأقارب ما يحتاجون إليه، وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتماماً بشأنه {وينهى عَنِ الفحشاء} الإفراط في مشايعة القوةِ الشهوية كالزنى مثلاً {والمنكر} ما يُنكَر شرعاً أو عقلاً من الإفراط في إظهار آثار القوةِ الغضبية {والبغى} الاستعلاءُ والاستيلاءُ على الناس والتجبرُ عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانيةِ التي هي حاصلةٌ من رذيلتَيْ القوتين المذكورتين الشهويةِ والغضبية، وليس في البشر شرٌّ إلا وهو مندرجٌ في هذه الأقسام صادرٌ عنه بواسطة هذه القُوى الثلاث، ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: هي أجمعُ آيةٍ في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غيرُ هذه الآية الكريمة لكفَتْ في كونه تبياناً لكل شيءٍ وهدى ورحمة {يَعِظُكُمُ} بما يأمر وينهى، وهو إما استئنافٌ وإما حالٌ من الضميرين في الفعلين {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} طلباً لأن تتعظوا بذلك.
{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} هو البَيعةُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها مبايعةٌ لله سبحانه لقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} {إِذَا عاهدتم} أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان} التي تحلِفون بها عند المعاهدة {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} حسبما هو المعهودُ في أثناء العهودِ لا على أن يكون النهيُ مقيداً بالتوكيد مختصاً به {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} شاهداً رقيباً، فإن الكفيلَ مُراعٍ لحال المكفول به محافظٌ عليه {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقض الأيمان والعهودِ فيجازيكم على ذلك.